تكلُّم الرأس الشريف في مصادر الفريقين
وعلى القنا رأس حسين يقرأ القرآن
هناك كرامات أو معاجز صادرة من الإمام الحسين عليه السلام قد روى المؤرّخون والمحدِّثون من الفريقين الكثير منها، وذكروا أنَّ بعضها حدث أثناء نهضته المباركة، والبعض الآخر بعد استشهاده عليه السلام، وبمجرَّد أن يُطالع المتتبّع ما ذُكر منها يحصل له القطع بحدوث بعضها، فمنها:
1ـ الاستجابة الفورية لدعائه عليه السلام على ابن حوزة.
2ـ إنّه رمى الإمام عليه السلام بشيء من دمه ودم ولده الرضيع إلى السماء، فلم تسقط منه قطرة.
3ـ إنّه تحوَّل التراب الذي دفعه النبي عليها السلام لأُمّ سلمة دماً علامةً على قتله عليه السلام.
4ـ انكساف الشمس حتى بدت الكواكب منتصف النهار.
5ـ اظلمّت الدنيا ثلاثة أيام، واسودّت، حتى ظنّوا أنّها القيامة.
6ـ أُمطرت السماء دماً.
7ـ إنّه لم يُرفع حجر في بيت المقدس وغيره إلّا وُجِد تحته دم عبيط.
8ـ إنّه لمّا وُضِع الرأس المقدَّس أمام عبيد الله بن زياد في قصر الإمارة سالت حيطان القصر دماً[1].
إلى غيرها من الكرامات التي حدثت أثناء وبعد واقعة الطفّ؛ ممّا تكشف عن مدى علاقة الإمام الحسين عليه السلام ونهضته المباركة بالله سبحانه وتعالى، ومدى عظم الجريمة وفداحتها.
ومن تلك الكرامات الخارقة للعادة تكلُّم الرأس الشريف بعد مقتل الإمام الحسين عليه السلام في عدّة مواضع، وقد روى هذه الكرامة عدد من مؤرِّخي ومحدِّثي المسلمين من كلا الفريقين، واخترنا هذا الجانب من نهضة الإمام الحسين عليه السلام، وهو جانب تكلُّم الرأس الشريف في عدّة مواضع؛ لبيان حقانية أهل البيت عليهم السلام وارتباطهم بالله جلّ وعلا، وفضاعة ما ارتُكب بحقهم من قِبل الأعداء.
وفيما يأتي نحاول استقصاء الروايات والمصادر التي روت هذه الكرامة، وسنستعرضها بمصادرها في كتب السنّة والشيعة، ثمَّ نتحدَّث عن مضمونها، وبعض الجوانب المرتبطة بها، من قبيل حكمة هذه الكرامة وغيرها.
وسنحاول في هذا البحث استعراض وبيان الروايات التي تحدَّثت حول تكلُّم الرأس الشريف، وكذلك معرفة الأماكن التي تكلَّم بها، ويقع الكلام في محورين رئيسين:
المحور الأول: روايات تكلُّم الرأس الشريف في مصادر أهل السنّة.
المحور الثاني: روايات تكلُّم الرأس الشريف في مصادر الشيعة.
المحور الأول: روايات تكلُّم الرأس الشريف في مصادر أهل السنّة
إنّ روايات تكلُّم الرأس الشريف في كتب العامّة ثلاث ـ على ما عثرنا عليه في كتبهم ـ وإليك تفصيلها:
الرواية الأُولى: رواية منهال بن عمرو
وهي ما رواه ابن عساكر ت571 بسند متّصل، عن الأعمش، عن منهال بن عمرو الأسدي، قال: «…والله، أنا رأيت رأس الحسين حين حُمل وأنا بدمشق، وبين يديه رجل يقرأ سورة الكهف حتى إذا بلغ قوله سبحانه وتعالى ﴿أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا﴾[2] فأنطق الله سبحانه وتعالى الرأس بلسان ذرب[3] فقال: أعجب من أصحاب الكهف قتلى وحملي»[4].
والمنهال بن عمرو هو الأسدي الكوفي، روى عنه البخاري، ونقل ابن حجر توثيقه عن ابن معين والنسائي والعجلي وغيرهم[5].
وقد نقل هذه الرواية عن ابن عساكر كلّ من:
السيوطي ت911ﻫ في الخصائص الكبرى[6]، والعلّامة المناوي في الكواكب الدرّية، ولكن مع اختلاف طفيف، حيث قال: «فنطق الرأس بلسان عربي فصيح، وقال جهاراً…»[7]، والصبّان في إسعاف الراغبين[8]، وابن منظور ت711ﻫ في مختصر تاريخ دمشق[9]، والصالحي الشامي ت942ﻫ في سُبل الهدى والرشاد[10]، والعلّامة الشبلنجي في نور الأبصار[11]، والمناوي في فيض القدير[12].
وقفة
بعد أن روى المناوي في فيض القدير هذه الرواية عن ابن عساكر، قال ما نصه: «قال ابن عساكر: إسناده مجهول»[13].
وهذه الجملة إسناده مجهول التي نسبها المناوي إلى ابن عساكر لم نجدها في كتاب ابن عساكر في الموضع الذي روى فيها هذه الرواية، ولا ندري من أين أتى بها؟ اللهم إلّا أن تكون هناك نسخة ثانية لتاريخ ابن عساكر قد ذُكرت فيها هذه الجملة لم نطّلع عليها، وعلى فرض وجود نسخة ثانية قد ذُكرت فيها هذه الجملة، يمكن استبعادها من خلال قرينتين:
1ـ إنّ جميع المصادر ـ فيما نعلم ـ التي نقلت هذه الرواية عن ابن عساكر لم تذكر هذه الجملة، وقد ذكرناها فيما تقدَّم، فمَن شاء فليراجعها.
2ـ إنّ المتتبّع لتاريخ ابن عساكر يلاحظ أنّه ليس بصدد توثيق السند أو تضعيفه، وإنّما بصدد نقل الروايات وذكر إسناده إليها فقط.
وكيف كان، سواء كان ابن عساكر ذكر ذلك أو لم يذكره فإنّه لا يؤثر على النتيجة التي نحاول الوصول إليها من خلال هذا الاستعراض، كما سيتّضح ذلك فيما يأتي إن شاء الله تعالى.
الرواية الثانية: رواية زيد بن أرقم
روى العلّامة المحدِّث الحافظ الميرزا محمد خان رستم خان المعتمد البدخشي، المتوفّى في أوائل القرن الثاني عشر في مفتاح النجا في مناقب آل العبا ص145 مخطوط، عن زيد بن أرقم رضي الله عنه أنّه قال: «… مُرَّ به [أي: رأس الحسين عليه السلام] عليّ وهو على رمح، وأنا في غرفة، فلمّا حاذاني سمعته يقرأ ﴿أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا ﴾ فقفَّ[14] ـ والله ـ شعري، وناديت: رأسك ـ والله ـ يا بن رسول الله وأمرك أعجب وأعجب»[15].
وزيد بن أرقم من مشاهير الصحابة، شهد غزوة مؤتة، توفّى في الكوفة سنة 66 أو 68[16]، ويُعدّ من أصحاب الرسول عليها السلام والإمام أمير المؤمنين والحسن والحسين عليهم السلام، وقد روى الكشي، عن الفضل بن شاذان: «أنّه من السابقين الذين رجعوا إلى أمير المؤمنين عليه السلام»[17].
ويظهر من ترجمته أنّه كان من سكنة الكوفة وقد مات فيها، ويبدو أنّ حادثة تكلُّم الرأس هذه حدثت معه في الكوفة.
الرواية الثالثة: رواية سلمة بن كهيل
وهي ما رواه ابن عساكر بسند متّصل عن الأعمش عن سلمة بن كهيل قال: «…رأيت رأس الحسين على القنا وهو يقول: ﴿فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّـهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾[18]»[19].
ورواها أيضاً الصفدي ت764ﻫ في الوافي بالوفيات في ترجمة سلمة بن كهيل[20].
ملحوظة: إنّ الصفدي رواها بلسان قال، حيث ذكر بعد أنّ نقل كلمات الأعلام في توثيق سلمة بن كهيل هكذا: «قال: رأيت رأس الحسين بن علي رضي الله عنهما على القنا…». وهذا التعبير يوحي بصحّة النسبة واعتبار الرواية؛ إذ التعبير المذكور يدلّ ـ عرفاً ـ على ثبوت النسبة وصحّتها.
خلاصة واستنتاج
هذه الروايات الثلاث هي كلّ ما عثرنا عليه في مصادر أهل السنّة، ومن خلال عرضها اتّضح ما يلي:
1ـ إنّ كرامة تكلُّم الرأس الشريف قد رواها ثلاثة من الرواة هم: المنهال بن عمرو، زيد بن أرقم، سلمة بن كهيل. والرواية الأُولى والثالثة سندها متّصل، بينما الثانية قد ذُكرت مرسلة.
2ـ لا يحتمل اتّحاد الحادثة؛ وذلك لأنّ رواتها مختلفون، كما أنّها مختلفة من حيث المضمون؛ إذ الأُولى في دمشق، بينما الثانية في الكوفة، والثالثة وإن لم يُذكر فيها المكان ولو بالقرينة، إلّا أنّ مضمونها يغاير ما في الروايتين السابقتين؛ فإنّ الآية التي تلاها الرأس الشريف تختلف عن الآية فيهما، كما أنّ الآية في الرواية الأُولى كان يتلوها رجل، ولكن الرأس نطق بعدها، بينما في الثانية كان الرأس هو الذي يتلوها.
3ـ عند ملاحظة الرواية الأُولى مع كثرة المصادر التي نقلتها عن ابن عساكر يتّضح أنّ هذه الحادثة من الحوادث المشهورة، ولو بتبع شهرة الرواية التي نقلتها، وإذا ضممنا إليها الروايتين الأخيرتين تزداد الحادثة شهرة.
وبهذا يتّضح عدم الحاجة إلى التتبّع السندي فيما روي؛ لأنّ شهرتها بين الرواة وتناقلهم لها ـ دون ملاحظة سندها ـ يغني عن ذلك، ويعطي اطمئناناً للمتتبّع بصدورها.
هذا كلّه مع قطع النظر عن مرويات الشيعة لهذه الحادثة، وإلّا فمع ملاحظتها، وملاحظة المصادر التي ذكرتها يحصل بمجموعها للمتتبّع الاطمئنان ـ بلا شكّ ـ في وقوع هذه الحادثة.
المحور الثاني: روايات تكلُّم الرأس الشريف في مصادر الشيعة
إنّ الروايات التي ذكرت أنّ رأس الإمام الحسين عليه السلام قد تكلَّم في عدّة مواضع من مصادر الشيعة كثيرةٌ، وقد أحصينا اثنتي عشرة رواية نذكرها تباعاً:
الرواية الأُولى: رواية المنهال بن عمرو
وهي ما رواه محمد بن سليمان الكوفي بسندٍ متّصل عن الأعمش عن المنهال بن عمرو قال: «… رأيت رأس الحسين بن عليّ على الرمح وهو يتلو هذه الآية: ﴿أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا﴾. فقال رجل من عرض الناس: رأسك ـ يا بن رسول الله ـ أعجب»[21].
ورواها أيضاً الراوندي ت573ﻫ في الخرائج، عن المنهال بن عمرو، ولكن مع اختلاف طفيف، ونصّها: «…عن المنهال بن عمرو، قال: أنا ـ والله ـ رأيت رأس الحسين عليه السلام حين حُمل وأنا بدمشق، وبين يديه رجل يقرأ الكهف حتى بلغ قوله: ﴿أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا﴾ فأنطق الله الرأسَ بلسانٍ ذرب ذلق، فقال: أعجب من أصحاب الكهف قتلي وحملي»[22].
وهي برواية الراوندي مطابقة لما في كتب أهل السنّة، كما في تاريخ ابن عساكر، بينما على رواية محمد بن سليمان الكوفي تغايرها من جهة أنّ الذي يقرأ آية الكهف هو الرأس الشريف، وليس رجلاً من الناس كما في رواية الراوندي والجمهور.
وسيتّضح فيما بعد ـ إن شاء الله تعالى ـ أنّ من البعيد أن يكون محمد بن سليمان والراوندي قد أخذا أو أحدهما هذه الرواية من تاريخ ابن عساكر، أو العكس، بل يمكننا الجزم بعدم ذلك.
والذي نريد قوله معجّلاً: إنّ هذه الرواية قد رويت في مصادر السنّة ومصادر الشيعة، ولكن لكلِّ فريق منهما طرقه إليها، وهذا ممّا يعزز شهرتها، ويؤكِّد حصول مضمونها.
الرواية الثانية: رواية زيد بن أرقم
وهي ما رواه الشيخ المفيد قدس سره مرسلاً عن زيد بن أرقم قال: «…مُرّ به عليّ وهو على رمح وأنا في غرفة، فلمّا حاذاني سمعته يقرأ: ﴿أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا ﴾ فقفَّ ـ والله ـ شعري وناديت: رأسك ـ والله ـ يا بن رسول الله أعجب وأعجب»[23].
ورواها عن الشيخ المفيد قدس سره كلّ من العلّامة المجلسي في البحار[24]، والبحراني في العوالم[25]، والشاهرودي في مستدرك سفينة البحار[26].
وهذه الرواية مطابقة لما ورد في مصادر السنّة ولا فرق بينهما إلّا في كلمة واحدة، فقد وردت كلمة وأمرك في مصادر السنّة ولم ترد في مصادر الشيعة.
الرواية الثالثة: رواية الحارث بن وكيدة
وهي ما رواه أبو جعفر الطبري في دلائل الإمامة بسند متّصل، عن الحارث ببن وكيدة، قال: «…كنت فيمَن حمل رأس الحسين عليه السلام فسمعته يقرأ سورة الكهف، فجعلت أشكّ في نفسي وأنا أسمع نغمة أبي عبد الله عليه السلام، فقال لي: يا بن وكيدة، أما علمت أنّا معشر الأئمّة أحياء عند ربّنا نُرزق؟! فقلت في نفسي: أسترق رأسه. فنادى: يا بن وكيدة، ليس لك إلى ذلك سبيل! سفكهم دمي أعظم عند الله تعالى من تسييرهم رأسي، فذرهم فسوف يعلمون ﴿إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ﴾[27]»[28].
والحارث بن وكيدة لم يُذكر في تراجم الرجال ـ حسب تتبّعنا ـ ولكن يظهر من هذه الرواية أنّه كان من أعوان الظلمة ومن المغرَّر بهم، ولكنّه انتبه من ضلاله عندما سمع تكلُّم الرأس الشريف، فحاول استنقاذه منهم لمّا شعر بتلك القداسة.
ولا يتّضح من هذه الرواية مكان حدوثها في الكوفة أو في الشام أو في الطريق، والظاهر أنّها لم تحدث في مكان عام بحيث يتسنّى لكلِّ حاضر أن يسمعها، فهي أشبه بحوار خاصّ دار بين الرأس وحامله.
الرواية الرابعة: رواية الشعبي
وهي ما رواه ابن شهر آشوب، عن أبي مخنف، عن الشعبي: أنّه صُلب رأس الحسين عليه السلام بالصيارف في الكوفة، فتنحنح الرأس وقرأ سورة الكهف إلى قوله: ﴿إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى﴾ فلم يزدهم ذلك إلّا ضلالاً[29].
ورواها أيضاً عن أبي مخنف، عن الشعبي الشاهرودي في سفينة البحار[30].
والشعبي ـ بفتح الشين وسكون العين ـ أبو عمرو عامر بن شراحيل الكوفي، يُعدّ من كبار التابعين، وكان فقيهاً شاعراً، روى عن خمسين ومائة من أصحاب رسول الله عليها السلام كذا عن السمعاني، وحُكي عنه أنّه قال: أدركت خمسمائة من الصحابة.
وثَّقه ابن حجر، ولكن لا يخفى حاله عند الشيعة، فإنّه مذموم مطعون[31].
وكون الراوي مذموماً عند الشيعة، لانحرافه عن أهل البيت عليهم السلام ممّا يقوِّي هذه الحادثة ويؤكّدها؛ لأنّ المنحرف عادة لا يروي فضائل مَن لا يحب ولا يهوى، وهذا يُعطي مؤشراً مهمّاً وهو أنّ هذه الحادثة بلغت حدّاً لا يمكن معه إخفاؤها حتى من المناوئين لخطّ أهل البيت عليهم السلام.
والشيء الملفت في هذه الرواية: أنّ الرأس الشريف قد تكلَّم في مكان عام مزدحم يسمعه كلّ مَن حضر من الناس، بعد إن لفت انتباه الحاضرين إليه من خلال التنحنح، ولكن ذلك لم يؤثر فيهم شيئاً، وهذا يفيد أنّ أغلب الحاضرين كانوا من الظالمين، لقوله: «فلم يزدهم ذلك إلّا ضلالاً».
ولا عجب إذا لم يهتدوا ولم يؤمنوا، فهذا هو حال الظالمين إذا ما سمعوا المواعظ وشاهدوا الآيات، فإنّها لا تزيدهم إلّا بُعداً وتكذيباً.
الرواية الخامسة: رواية سهل بن سعيد الشهرزوري
وهي ما رواه الطريحي في المنتخب، قال: «…خرجت من شهرزور أُريد بيت المقدس، فصار خروجي أيام قتل الحسين عليه السلام، فدخلت الشام فرأيت الأبواب مفتّحة، والدكاكين مغلقة، والخيل مسرجة، والأعلام منشورة، والرايات مشهورة، والناس أفواجاً امتلأت منهم السكك والأسواق، وهم في أحسن زينة يفرحون ويضحكون، فقلت لبعضهم: أظنّ حدث لكم عيد لا نعرفه؟ قالوا: لا. قلت: فما بال الناس كافّة فرحين مسرورين؟ فقالوا: أغريب أنت، أم لا عهد لك بالبلد؟ قلت: نعم، فماذا؟ قالوا: فُتح لأمير [المفسدين] فتح عظيم. قلت: وما هذا الفتح؟ قالوا: خرج عليه في أرض العراق خارجي فقتله، والمنّة لله وله الحمد! قلت: ومَن هذا الخارجي؟ قالوا: الحسين بن علي بن أبي طالب. قلت: الحسين بن فاطمة بنت رسول الله؟! قالوا: نعم! قلت: إنّا لله وإنّا إليه راجعون، وإنّ هذا الفرح والزينة لقتل ابن بنت نبيكم؟! وما كفاكم قتله حتى سميتموه خارجياً؟!
فقالوا: يا هذا! أمسك عن هذا الكلام واحفظ نفسك؛ فإنّه ما من أحد يذكر الحسين بخير إلّا ضُربت عنقه. فسكت عنهم باكياً حزيناً، فرأيت باباً عظيماً قد دخلت فيه الأعلام والطبول.
فقالوا: الرأس يدخل من هذا الباب. فوقفت هناك، وكلّما تقدَّموا بالرأس كان أشدّ لفرحهم وارتفعت أصواتهم، وإذا برأس الحسين والنور يسطع من فيه كنور رسول الله عليها السلام، فلطمت على وجهي، وقطعت أطماري، وعلا بكائي ونحيبي، وقلت: واحزناه! للأبدان السليبة النازحة عن الأوطان، المدفونة بلا أكفان، واحزناه! على الخدّ التريب والشيب الخضيب، يا رسول الله! ليت عينيك ترى رأس الحسين في دمشق يُطاف به في الأسواق، وبناتك مشهورات على النياق مشققات الذيول والأزياق، ينظر إليهم شرار الفسَّاق، أين علي بن أبي طالب يراكم على هذا الحال؟! إلى أن قال: وكان معي رفيق نصراني يريد بيت المقدس وهو متقلَّد سيفاً تحت ثيابه، فكشف الله عن بصره فسمع رأس الحسين، وهو يقرأ القرآن ويقول: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّـهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ﴾[32]، فقد أدركته السعادة، فقال: أشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له، وأنّ محمداً عبده ورسوله، ثمّ انتضى سيفه وشدَّ به على القوم، وهو يبكي وجعل يضرب فيهم، فقتل منهم جماعة كثيرة، ثمَّ تكاثروا عليه فقتلوه…»[33].
وسهل هذا يبدو أنّه الصحابي المعروف، سهل بن سعد الساعدي.
الرواية السادسة: رواية النطنزي في الخصائص
وهي ما رواه ابن شهر آشوب عن النطنزي في الخصائص قال: «…لمّا جاؤوا برأس الحسين ونزلوا منزلاً يُقال له: قنسرين، اطّلع راهب من صومعته إلى الرأس فرأى نوراً ساطعاً يخرج من فيه ويصعد إلى السماء، فأتاهم بعشرة آلاف درهم وأخذ الرأس، وأدخله صومعته فسمع صوتاً ولم يرَ شخصاً، قال: طوبى لك، وطوبى لمَن عرف حرمته. فرفع الراهب رأسه قال: يا ربّ، بحقِّ عيسى تأمر هذا الرأس بالتكلُّم معي، فتكلَّم الرأس وقال: يا راهب، أي شيءٍ تريد! قال مَن أنت؟ قال: أنا ابن محمد المصطفى، وأنا ابن علي المرتضى وأنا ابن فاطمة الزهراء، وأنا المقتول بكربلاء، أنا المظلوم أنا العطشان. فسكت، فوضع الراهب وجهه على وجهه، فقال: لا أرفع وجهي عن وجهك حتى تقول: أنا شفيعك يوم القيامة. فتكلَّم الرأس، فقال: ارجع إلى دين جدّي محمد. فقال الراهب: أشهد أن لا إله إلّا الله وأشهد أنّ محمداً رسول الله. فقبل له الشفاعة، فلما أصبحوا أخذوا منه الرأس والدراهم، فلمّا بلغوا الوادي نظروا الدراهم قد صارت حجارة»[34]. ونقلها ـ أيضاً عن النطنزي في الخصائص ـ العلّامة المجلسي في البحار[35].
والنطنزي هو محمد بن أحمد النطنزي الكاشاني 480 ـ 550ﻫ يروي عنه السيد الراوندي[36].
ويبدو أنّ حادثة إسلام الراهب على يد الرأس الشريف من الحوادث المشهورة المعروفة، والدليل على ذلك أنّ الجوهري الجرجاني قد نظم فيها شعراً حيث قال:
حتى يصيح بقنسرين صاحبها
يا فرقة الغي يا حزب الشياطين
أتهزؤون برأس بات منتصباً
على القناة بدين الله يؤميني
آمنت ويحكم بالله مهتدياً
وبالنبي وحبّ المرتضى ديني
فـجدلوه صريعاً فـوق وجـنته
وقسموه بأطراف السكاكين[37]
والجوهري الجرجاني من شعراء القرن الرابع الهجري[38]، وهذا يدلّ على اشتهار الحادثة قبل زمان ابن شهر آشوب ـ الناقل لها ـ بقرنين من الزمن.
الرواية السابعة: رواية اليهودي الذي أسلم بسبب الرأس الشريف
وهي ما رواه العلّامة المجلسي في البحار عن كتاب المناقب القديم، حيث قال: «…روي أنّه لما حُمل رأسه إلى الشام جنَّ عليهم الليلُ فنزلوا عند رجل من اليهود، فلمّا شربوا وسكروا، قالوا: عندنا رأس الحسين عليه السلام. فقال: أروه لي. فأروه وهو في الصندوق يسطع منه النور نحو السماء؛ فتعجّب منه اليهودي، فاستودعه منهم وقال للرأس: اشفع ليّ عند جدّك فأنطق الله الرأس، فقال: إنّما شفاعتي للمحمديين، ولست بمحمدي. فجمع اليهودي أقرباءه، ثمَّ أخذ الرأس ووضعه في طست وصبّ عليه ماء الورد، وطرح فيه الكافور والمسك والعنبر، ثمَّ قال لأولاده وأقربائه: هذا رأس ابن بنت محمد عليه السلام، ثمَّ قال: يا لهفاه، حيث لم أجد جدّك محمداً عليها السلام فأُسلم على يديه! يا لهفاه حيث لم أجدك حياً فأُسلم على يديك وأُقاتل بين يديك! فلو أسلمت الآن أتشفع لي يوم القيامة؟ فانطق الله الرأس، فقال بلسان فصيح: إن أسلمت فأنا لك شفيع، قاله ثلاث مرات وسكت فأسلم الرجل وأقرباؤه»[39].
وقد احتمل العلاّمة المجلسي قدس سره أن يكون هذا اليهودي هو نفسه راهب قنسرين، حيث قال ما نصّه: «ولعل هذا اليهودي كان راهب قنسرين؛ لأنّه أسلم بسبب رأس الحسين عليه السلام وجاء ذكره في الأشعار وأورده الجوهري الجرجاني في مرثية الحسين عليه السلام»[40]، ولكنّه احتمال ضعيف؛ وذلك لأنّ اليهودي لا يُسمى راهباً، وإنّما يُسمى حبراً، هذا أولاً، وثانياً للاختلاف الواضح بين القصّتين ـ من حيث التفاصيل ـ المانع من اتّحادهما.
الرواية الثامنة: مرسلة ابن شهر آشوب
وهي ما رواه في المناقب مرسلاً، حيث قال: «… وفي أثر أنّهم لمّا صلبوا رأسه على الشجرة سُمع منه: ﴿وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ ﴾[41]»[42]. ورواها مرسلةً أيضاً العلّامة المجلسي في البحار[43].
الرواية التاسعة: مرسلة أُخرى لابن شهر آشوب
وهي ما رواه في المناقب أيضاً، فقال: «… وسُمع صوته عليه السلام بدمشق يقول: لا قوّة إلّا بالله»[44]، وكذلك رواها المجلسي في البحار[45].
الرواية العاشرة: مرسلة البحراني في مدينة المعاجز
ما رواه البحراني مرسلاً: «… إنّ عبيد الله بن زياد بعد ما عُرِض عليه رأس الحسين عليه السلام دعا بخولي بن يزيد الأصبحي، وقال له: خذ هذا الرأس حتى أسألك عنه. فقال: سمعاً وطاعة. فأخذ الرأس وانطلق به إلى منزله، إلى أن قال: فخرجت امرأته في الليل، فرأت نوراً ساطعاً من الرأس إلى عنان السماء، فجاءت إلى الإجانة فسمعت أنيناً، وهو يقرأ إلى طلوع الفجر، وكان آخر ما قرأ: ﴿وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ﴾»[46].
الرواية الحادية عشرة: ما نقل عن البهبهاني في شرح الشافية
فقد نُقل عنه أنّه روى عن أبي مخنف أنه قال: «… حدّثني مَن حضر اليوم الذي ورد فيه رأس الحسين عليه السلام على ابن زياد لعن قال: رأيت قد خرجت من القصر نارٌ، فقام عبيد الله بن زياد هارباً من سريره إلى أن دخل بعض البيوت، وتكلّم الرأس الشريف بصوت فصيح جهوري، يسمعه ابن زياد ومَن كان معه، إلى أين تهرب من النار؟! يا ملعون! لئن عَجَزت عَنك في الدنيا فإنّها في الآخرة مَثْواك ومصيرك. قال: فوقع أهل القصر سجّداً لما رأوا من رأس الحسين عليه السلام، فلّما ارتفعت النار سكت رأس الحسين عليه السلام»[47].
الرواية الثانية عشرة: رواية هلال بن معاوية
ذكر السيد المقرّم قدس سره ـ نقلاً عن بعض المصادر ـ هذه الرواية، فقال: «… قال هلال ابن معاوية: رأيت رجلاً يحمل رأس الحسين عليه السلام والرأس يخاطبه: فرَّقتَ بين رأسي وبدني؟! فرّق الله بين لحمك وعظمك وجعلك آية ونكالاً للعالمين. فرفع السوط وأخذ يضرب الرأس حتى سكت»[48].
هذه مجموعة من الروايات التي عثرنا عليها في كتب الخاصّة، ولعل هناك غيرها ولكننا لم نظفر بها.
الخلاصة
إنّ حادثة تكلّم الرأس الشريف من الحوادث المشهورة والمعروفة في كتب الفريقين، فقد رويت في كتب العامّة بثلاث روايات مختلفة لا يحتمل اتّحادها، كما رويت في كتب الخاصّة باثنتي عشرة رواية مختلفة، لا يحتمل اتّحادها جميعاً أو بعضها، فكلّ رواية تتحدَّث عن حادثة مغايرة للحادثة الأُخرى التي تتحدّث عنها باقي الروايات ولا بدّ من الالتفات إلى هذه القضية، وهي: أنّ كتب الفريقين تشترك في نقل اثنين من الروايات، وهما: رواية المنهال بن عمر، ورواية زيد بن أرقم، وتختلف في نقل بقية الروايات، فتختصّ العامّة بنقل رواية سلمة بن كهيل، بينما تختصّ الخاصّة بنقل عشرة روايات على ما تقدّم بيانها.
والملفت أنّ رواية المنهال التي رواها ابن عساكر من العامة، ورواها محمد بن سليمان الكوفي، وقطب الدين الرواندي من الخاصّة، لا يحتمل أنّ ابن عساكر قد أخذها من الكوفي أو الرواندي، وكذلك لا يحتمل العكس، ومعه يكون لكلٍّ من ابن عساكر والكوفي والرواندي طريق لهذه الرواية، وإن كان الجميع يتّفق على نقلها عن الأعمش عن المنهال، ولكن طريق كلٍّ من ابن عساكر، والكوفي والراوندي إلى الأعمش مختلف.
أمّا أنّ ابن عساكر لا يُحتمل أخذه للرواية من محمد بن سليمان الكوفي على الرغم من تقدِّمه عليه زماناً؛ فذلك لأنّه قد ذكر طريقه إلى الرواية ولم يكن فيه محمد بن سليمان، وأمّا أنّه لم يأخذها من الراوندي، فهو بالإضافة إلى كونه معاصراً له وأنّ وفاته كانت سنة 571ﻫ، بينما الراوندي كانت 577ﻫ، إلّا أنّه لم يُذكر الرواندي في طريق ابن عساكر إلى الرواية.
لنسبة إلى العكس فلا يحتمل رواية محمد بن سليمان عنه لتقدِّمه عليه زماناً، فإنه قد ذكر أنّه قد فرغ من تأليف كتابه المناقب سنة 300ﻫ، فهو متقدِّم على ابن عساكر بثلاثة قرون، وأمّا الرواندي فإنّه وإن أمكن أن يرويها عن ابن عساكر، ولكنه لم يذكر ذلك في كتابه.
وبهذا يتّضح أنّ هذه الرواية بالإضافة إلى شهرتها عند الفريقين ـ لها أكثر من طريق إذ إن لابن عساكر طريقاً إليها، كما أن لمحمد بن سليمان طريقاً أيضاً، وهذا ممّا يؤكِّد صدورها ووقوع المحادثة التي تضمنتها.
تلخيص النتائج من خلال ما استعرضناه من الروايات المتقدّمة
توفّرت لدينا مجموعة من النتائج، يمكن أن نلخصها ضمن عدّة نقاط:
- إنّ حادثة تكلّم الرأس الشريف إنْ لم تبلغ رواياتها حدَّ الاستفاضة فلا أقل من شهرتها إلى حدٍّ توجب الاطمئنان بصدورها.
- إنَّ عدد الروايات التي نقلت الحادثة ثلاث في كتب العامّة واثنا عشرة في كتب الخاصّة، فيكون مجموع روايات الفريقين خمسة عشر رواية.
- إنّ عدد المرّات التي تكلّم فيها الرأس الشريف ثلاثة عشر مرّة.
- إنّ الآيات التي تكلّم بها الرأسُ الشريف هي:
﴿أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا﴾[49].
﴿ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّـهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾[50].
﴿إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ﴾[51].
﴿إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى﴾[52].
﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّـهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ﴾[53].
﴿وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ﴾[54]. - إنّ الرأس الشريف تكلَّم أربعَ مرّات في الكوفة، وثلاث مرّات في الشام، وثلاث مرّات في الطريق، وتبقى ثلاث مرّات لا يُعلم مكان حدوثها بالضبط.
مضمون الكرامة وحكمتها
اتّضح من خلال عرض الروايات مضمون هذه الكرامة، وهو تكلّم الرأس الشريف ببعض الآيات الكريمة، وببعض الجمل والعبارات، في عدّة مناسبات، وهذا شيء واضح، ولكن يبقى أن نبحث عن حكمة هذه الكرامة، وهل يمكن استشراف بعض الأهداف والغايات المتوخّاة منها؟
يمكن أن نذكر في هذا المجال ما يلي:
أولاً: إنّ هذه الحادثة تكشف عن عظمة الإمام الحسين عليه السلام ومكانته السامية عند الله سبحانه وتعالى، وتكشف عن عظم الجريمة التي ارتكبتها الدولة الأُموية في حقّه عليه السلام، وهذه الحقيقة ـ عظمة الإمام الحسين عليه السلام وعظم الجريمة وفداحتها في الإسلام ـ من الأهداف المهمّة التي أراد الله سبحانه وتعالى تثبيتها في قلوب المسلمين، لتحقيق الوعي الكامل، والفهم الصحيح، لأهداف الإسلام وحقيقته.
إذ إن الأُمّة الإسلامية أيّام نهضة الإمام الحسين عليه السلام أُمّة مشلولة عاجزة لا تستطيع الحركة، وتعيش روح الهزيمة والاستسلام، فكانت ـ لكي تنهض وتعي ـ بحاجة إلى صدمة عظيمة، ومنبّه صارخ ينتشلها من هذا الواقع المرير، فجاءت نهضة الإمام الحسين عليه السلام بكلّ تفاصيلها المؤلمة ومشاهدها المروعة لتقوّي هذه الصدمة في النفوس المريضة، ولتبقى تعيش في الأذهان مدى العصور.
ثانياً: إنّ هذه الحادثة تقع في إطار خطّ أهل البيت عليهم السلام الساعي ـ دائماً ـ لهداية الأُمّة نحو الإسلام الحقيقي، ولتؤكِّد هذه الحادثة على أحقّية أهل البيت عليهم السلام في ميراث الرسول عليها السلام الديني، وخلافته في قيادة الأُمّة الإسلامية ورعايتها. فهذه الكرامة التي ظهرت من الرأس الشريف تدعو إلى الهداية والإيمان، وقد تحقق ذلك حيث أسلم واهتدى عددٌ ممّن شاهد هذه الكرامة، كما تقدّم في قصّة النصراني، واليهودي، وابن وكيدة، وغيرهم.
ثالثاً: لو رجعنا إلى الآيات الكريمة التي نطق بها الرأس الشريف لوجدناها تتحدَّث عن الظالمين والطغاة، والوعد الإلهي الذي ينتظرهم، وأنّهم مهما اجتهدوا في ظلم الناس وأوغلوا في دماء الصلحاء لا بدّ أن يدفعوا ثمن ذلك باهضاً، وأنّهم مع ذلك لا يستطيعون أن يوقفوا المسيرة الإسلامية نحو تحقيق غايتها وأهدافها.
رابعاً: أكثر الآيات التي نطق بها الرأس الشريف هي آية: ﴿أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا﴾، وآية: ﴿ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى ﴾، وهذا ممّا يوحي بشدّة الشبه بين الحادثتين، ويمكن أن نذكر في هذا المجال ستّة أوجه:
الوجه الأول: التشابه بين الزمانين، فإنّ كلا الزمانين كانت تسوده مظاهر الجهل والابتعاد عن الله سبحانه، مع حالة الخضوع والاستسلام التي كانت تعيشها الأُمّة.
الوجه الثاني: التشابه بين الدعوة المسيحية الأصيلة التي كان يحملها أصحاب الكهف، والدعوة الحسينيّة التي كان يحمل لواءها الإمام الحسين عليه السلام وأصحابه، فكلا الدعوتين تحملان الأهداف نفسها، ويصارعان الأشكال نفسها؛ فإنّ هدف أصحاب الكهف إرجاع الأُمّة إلى الدين المسيحي الصحيح الخالي من التحريف والبدع، وإنقاذ الناس من عبودية الحاكم الجائر، كذلك الأمر بالنسبة لأهداف الإمام الحسين عليه السلام؛ حيث كان يهدف إلى إرجاع الأُمّة للدعوة الإسلامية الصحيحة الخالية من التحريف والبدع التي أحدثها بنو أُمية في جسد الأُمّة الإسلامية.
الوجه الثالث: إنّ أصحاب الكهف وقفوا بوجه الجهاز الحاكم وهم قلّة قليلة في الوقت الذي لم يكن أحد يجرؤ على التكلّم ببنت شفة ولو كان يملك العدّة والعدد، كذلك الإمام الحسين عليه السلام وأصحابه فقد وقفوا بوجه الجهاز الحاكم وهم قلّة قليلة، في زمان تسوده روح الاستسلام والخنوع.
الوجه الرابع: كلا الدعوتين كانتا سلميّتين، تدعوان إلى قضيتهما بعيداً عن القتال والعنف.
الوجه الخامس: إنّ حادثة أصحاب الكهف حادثة عجيبة بقيت تعيش في أذهان الناس ردحاً من الزمن، بل وإلى الآن ما زالت جوانبها خافية علينا؛ إذ كيف يمكن لإنسان أن ينام أكثر من ثلاثمائة سنة، ثم يستيقظ حياً، دون أن يأكل أو يشرب، إنّ ذلك بحسب قوانين الطبيعة يعدّ أمراً خارقاً للعادة، مثيراً للتعجب والاستغراب، وهكذا الأمر بالنسبة إلى الإمام الحسين عليه السلام فكيف لرأس مقطوع أن يتكلّم، إنّ ذلك شيء عجيب حقّاً! ويمكن أن يكون التعجّب في حادثة الإمام الحسين عليه السلام راجعاً إلى نفس الإقدام على قتله بتلك الصورة البشعة، وما أعقبه من التمثيل بالجثّة الطاهرة والرأس الشريف، مع ما يتمتع به من مكانة مرموقة لا يشاركه فيها أحد في عصره.
الوجه السادس: من أوجه الشبه بين الحادثتين أنّ كليهما كان مضمون النتائج ولو بعد حين؛ فإن أصحاب الكهف لمّا أيقضهم الله سبحانه وتعالى بعد أكثر من ثلاثمائة سنة على نومهم وجدوا أنّ جهودهم قد أثمرت وأينعت، حيث الناس على دين المسيحية الصحيحة وحكّامهم كذلك، وأنّ عبادة الوثنية قد ولّت وأدبرت، وهكذا الأمر بالنسبة إلى الإمام الحسين عليه السلام؛ فإنّه لو عاد إلى الحياة اليوم لرأى ملايين المسلمين يطوفون بقبره المقدّس وهم يحيون المبادئ والقيم التي قُتل لأجلها، ويقدّسون الأهداف التي سعى لتحقيقها بدمه الطاهر، رحم الله السيد جعفر الحلي حيث قال:
قد أصبح الدين منه يشتكي سقماً
وما إلى أحدٍ غير الحسين شكى
فما رأى السبط للدين الحنيف شفاً
إلّا إذا دمه في كربلا سُفكا
وما سمعنا عليلاً لا علاج له
إلّا بنفس مداويه إذا هلكا
بقتـله فـاح للإسلام نشر هدىً
فكـلّما ذكــرته المسلمون ذكا[55]
[1] راجع هذه الأحداث وغيرها في المصادر التالية: الطبري، محمد بن جرير، تاريخ الأُمم والملوك: ج4، أحداث سنة إحدى وستين من الهجرة. ابن الأثير، علي بن أبي الكرم، الكامل في التاريخ: ج4 أحداث سنة إحدى وستين من الهجرة. ابن عساكر، علي بن الحسن، تاريخ مدينة دمشق: ج14، ترجمة الحسين ابن علي. وغيرها من المصادر الأُخرى.
[2] الكهف: آية9.
[3] ذرب: فصيح. ابن منظور، محمد بن مكرم، لسان العرب: مادة ذرب.
[4] ابن عساكر، علي بن الحسن، تاريخ مدينة دمشق: ج60، ص370.
[5] ابن حجر، أحمد بن علي، مقدمة فتح الباري: ص446.
[6] اُنظر: السيوطي، جلال الدين، الخصائص الكُبرى: ج2، ص127.
[7] المناوي، محمد عبد الرؤوف، الكواكب الدرّية: ج1، ص57.
[8] اُنظر: الصبان، محمد بن علي، إسعاف الراغبين: ص218.
[9] اُنظر: ابن منظور، محمد بن مكرم، مختصر تاريخ دمشق: ج25، ص374.
[10] اُنظر: الصالحي، محمد بن يوسف، سُبل الهدى والرشاد: ج11، ص76.
[11] اُنظر: الشبلنجي، مؤمن بن حسن، نور الأبصار: ص125.
[12] المناوي، محمد عبد الرؤوف، فيض القدير: ج1، ص265.
[13] المصدر السابق.
[14] قف شعري، أي: قام من الفزع. الجوهري، إسماعيل بن حماد، الصحاح: ج 4، ص1418، قفف.
[15] نقل هذه الرواية عن المصدر المذكور السيد المرعشي في شرح إحقاق الحقّ: ج11، ص452.
[16] الذهبي، محمد بن أحمد، سير أعلام النبلاء: ج3، ص165.
[17] التفرشي، مصطفى بن الحسين، نقد الرجال: ج2، ص281.
[18] البقرة: آية 137.
[19] ابن عساكر، علي بن الحسن، تاريخ مدينة دمشق: ج22، ص117.
[20] اُنظر: الصفدي، صلاح الدين خليل، الوافي بالوفيات: ج15، ص200.
[21] الكوفي، محمد بن سليمان، مناقب الإمام أمير المؤمنين عليه السلام: ج2، ص267.
[22] الراوندي، قطب الدين، الخرائج والجرائح: ج2، ص577.
[23] المفيد، محمد بن محمد، الإرشاد: ج2، ص117.
[24] المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج45، ص121.
[25] البحراني، عبد الله، العوالم: ص389.
[26] الشاهرودي، علي النمازي، مستدرك سفينة البحار: ج4، ص6.
[27] غافر: آية 71.
[28] الطبري، محمد بن جرير، دلائل الإمامة: ص78.
[29] ابن شهر آشوب، محمد بن علي، مناقب آل أبي طالب: ج3، ص218.
[30] اُنظر: الشاهرودي، علي النمازي، مستدرك سفينة البحار: ج4، ص6.
[31] اُنظر: القمي، عباس، الكنى والألقاب: ج2، ص261.
[32] إبراهيم: آية 42.
[33] الطريحي، المنتخب: ص282.
[34] ابن شهر آشوب، محمد بن علي، مناقب آل أبي طالب: ج3، ص217.
[35] اُنظر: المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج45، ص303.
[36] اُنظر: الراوندي، فضل الله، النوادر:ص20.
[37] ابن شهر آشوب، محمد بن علي، مناقب آل أبي طالب: ج3، ص216.
[38] اُنظر: الأميني، عبد الحسين بن أحمد، الغدير: ج4، ص82.
[39] المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج45، ص172.
[40] المصدر السابق.
[41] الشعراء: آية 227.
[42] ابن شهر آشوب، محمد بن علي، مناقب آل أبي طالب: ج3، ص218.
[43] اُنظر: المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج45، ص304.
[44] ابن شهر آشوب، محمد بن علي، مناقب آل ابي طالب: ج3، ص218.
[45] المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج45، ص304.
[46] البحراني، هاشم، مدينة المعاجز: ج4، ص 124.
[47] لجنة الحديث في معهد باقر العلوم عليه السلام، موسوعة كلمات الإمام الحسين عليه السلام: ص625.
[48] المقرّم، عبد الرزّاق، مقتل الحسين عليه السلام: ص415.
[49] الكهف: آية 9.
[50] البقرة: آية 137.
[51] غافر: آية71.
[52] الكهف: آية 13.
[53] إبراهيم: آية 42.
[54] الشعراء: آية 227.
[55] البحراني، حسين بن علي، رياض المدح والرثاء: ص230.
{الشيخ إسكندر الجعفري}
اترك رداً