المؤمنون المذنبون
السؤال الذي يُطرح هنا هو أنّ مفهوم الشفاعة يعني غفران الذنب ورفع العقاب المستتبع له، فكيف يمكن الجمع إذن بين صفة الاِيمان بالله واليوم الآخر وبين صفة ارتكاب الذنب ومقارفة المعصية ؟
وللجواب على ذلك نقول: إنّ للمؤمنين درجاتٌ بما امتلك كل مؤمن من الصفات، وقد أشار القرآن الكريم في مواضع عديدة إلى حقيقة التفاوت والدرجات بين المؤمنين، مثل قوله تعالى: (.. لا يَستَوِي
الصفحة 58
القَاعِدُونَ مِنَ المؤمنِينَ غَيرُ أُولي الضَّررِ وَالمجاهِدُون في سَبيلِ اللهِ بأموالِهِم وأنفُسِهِم فَضَّل اللهُ المجاهِدِينَ بأموالِهِم وَأنفُسِهِم عَلى القاعدِين دَرَجةً وكُلاًّ وَعَد اللهُ الحُسنَى وفَضَّل اللهُ المجاهِدِينَ على القَاعدِينَ أجراً عَظِيماً)(1).
والتأمل في الآية الشريفة الآنفة يكشف عن عدّة أمور مهمة، منها أنّ القاعدين عن الجهاد بأموالهم وأنفسهم مع عدم وجود ما يمنعهم من عذر شرعي من نقص في الاَعضاء أو فقر لا يتساوون مع المجاهدين، لكنّ الله وعد كليهما الحسنى في الآخرة، لكنّ الله سبحانه وتعالى فضّل المجاهدين على القاعدين من ناحية الاَجر والثواب، ووصفه بأنّه أجرٌ عظيم.
إنَّ المؤمن يذنب لكنه يستغفر الله ويتوب، وهو أيضاً يحتاج إلى الشفاعة، فقد سُئل الاِمام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام عن: المؤمن هل له شفاعة ؟ قال: «نعم»، فقال رجل من القوم: هل يحتاج المؤمن إلى شفاعة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ؟ قال: «نعم، إنّ للمؤمنين خطايا وذنوباً وما من أحدٍ إلاّ يحتاج إلى شفاعة محمد يومئذ» (2).
ولا محل هنا بعدما تقدم للاعتراض: بأنّ المؤمنين لا يكونون مؤمنين حتى يتحركوا بنفس المستوى من الفعل عند اتحاد الداعي للفعل، لاَنّ هذا الاعتراض تغافل عن مقتضيات الطبيعة البشرية، والله أعلم بعباده وقوله عزّ شأنه يوضح قانوناً من قوانين الخلقة وبعد هذا.. فالتفاوت بين البشر حقيقة ثابتة لا يمكن نكرانها وإن كان بين المؤمنين.
(1) النساء 4: 95.
(2) تفسير العياشي 2: 314.
الصفحة 59
كما أنّ الحديث المروي عن الاِمام الصادق عليه السلام يكشف صراحة عن أنّ للمؤمنين خطايا وذنوباً، وإنّهم بحاجة إلى شفاعة الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم لهم يوم القيامة.
وننقل القاريء الكريم إلى التدبر في الآيات القرآنية الشريفة التالية: (وَسَارِعُوا إلى مَغفرةٍ مِّن رَّبِّكُم وَجَنّةٍ عَرضُها السَّمواتُ وَالاَرضُ أُعدِت لِلمُتَّقين * الَّذينَ يُنفِقُونَ في السّرّآءِ والضّرّآءِ وَالكاظمِينَ الغَيظَ وَالعافِينَ عَنِ النَّاسِ واللهُ يُحبُّ المحسِنينَ * وَالَّذِينَ إذَا فَعَلُوا فاحِشةً أو ظَلَمُوا أنفُسَهُم ذَكرُوا اللهَ فاستَغفرُوا لِذُنُوبِهِم وَمَن يَغفِرُ الذُّنُوبَ إلاّ اللهُ وَلَم يُصرُّوا عَلى مَا فَعَلُوا وَهُم يَعلمُونَ * اُولئِكَ جَزآؤهُم مَّغفِرةٌ مِّن رّبِّهِم وَجنَّاتٌ تَجرِي مِن تَحتِها الاَنهارُ خَالِدِينَ فِيها وَنِعمَ أجرُ العَامِلينَ)(1).
ومحل الشاهد في الآيات الشريفة هو التصريح بأنّ الذين يستغفرون الله لذنوبهم بعد فعل الفاحشة أو ظلم النفس ولم يصرّوا على الاستمرار على ذلك الفعل فإنَّ الله وعدهم جنات تجري من تحتها الاَنهار خالدين فيها.. ويتضح إنَّ عدم الاِصرار على الذنب ومن ثم الاستغفار والتوبة هي من صفات المؤمنين؛ لاَنَّ الله لا يعدُ أحداً بالجنة والنعيم إنْ لم يكن مؤمناً مرضيّاً عند الله سبحانه وتعالى.
ولكن المؤمن إذا ارتكب معصية أو اقترف إثماً وأصرّ عليه، فهل يبقى على صفة الاِيمان بمعناه الحقيقي الذي يريده سبحانه وتعالى متجسداً عند الاِنسان بالفعل والسلوك والعمل وليس بمجرد الادعاء والعادة ؟
(1) آل عمران 3: 133 ـ 136.
الصفحة 60
وبدون شك، فإنَّ الاِصرار على الذنب قد يُخرج المؤمن عن صفة الاِيمان الحقيقي التام «وذلك لاَنَّ الاِصرار على الذنب يستوجب الاستهانة بأمر الله والتحقير لمقامه سواء كان الذنب المذكور من الصغائر أو الكبائر..»(1).
وقد تقدّم في جواب الاِمام أبي عبدالله الصادق عليه السلام لعبدالله بن سنان بأنّ الاِصرار على الذنب يخرج الاِنسان من الاِيمان.
وهل هناك عاقل يقول: إنَّ من يستهين بأوامر الله، هو ومن يمتثل أوامره ونواهيه كلها كما أمر ونهى، على حدٍ سواء ؟
ومن الآيات الشريفة ننقل القارىء إلى التدبر في الاَحاديث المروية عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته المعصومين عليهم السلام.
عن أبي عبدالله عليه السلام في رسالته إلى أصحابه قال: «وإياكم ان تشرهُ أنفسكم إلى شيء حرّم الله عليكم، فإنَّ من انتهك ما حرّم الله عليه ههنا في الدنيا، حال الله بينه وبين الجنة ونعيمها ولذتها وكرامتها القائمة الدائمة لاَهل الجنة أبد الآبدين.. ـ إلى أن قال ـ وإياكم والاِصرار على شيء مما حرّم الله في القرآن..» (2).
وجاء في وصية الرسول الاَكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلم للصحابي الجليل أبي ذر رضي الله عنه قوله: «يا أبا ذر إنَّ المؤمن ليرى ذنبه كأنّه تحت صخرة يخاف أن تقع عليه، والكافر يرى ذنبه كأنّه ذبابٌ مرّ على أنفه» (3).
(1) الميزان في تفسير القرآن، للطباطبائي 4: 21.
(2) وسائل الشيعة، للحر العاملي 6: 201.
(3) أعلام الدين في صفات المؤمنين، للديلمي: 191 ـ تحقيق مؤسسة آل البيت عليهم السلام لاحياء التراث.
الصفحة 61
عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عُمير، عن منصور بن يونس عن أبي بصير قال: سمعتُ أبا عبدالله عليه السلام يقول: «لا والله لا يقبل الله شيئاً من طاعته على الاِصرار على شيء من معاصيه» (1).
وبعد كل ما تقدم أصبح واضحاً وجليّاً أنَّ المؤمن إنما يخرج عن ربقة الاِيمان التام الحقيقي بالاِصرار على الذنب والمعصية، ويغدو واضحاً أيضاً أنَّ المؤمن قد يُذنب الذنب الكبير أو الصغير، لكنّه يُسارع إلى الاستغفار والتوبة فيتوب الله عليه، وقد تقدّم فيما مضى أنَّ الشفاعة هي لاَهل المعاصي من المؤمنين.
قال الحسين بن خالد:.. فقلت للرضا عليه السلام: يا بن رسول الله فما معنى قوله عز وجل (وَلا يَشفَعُونَ إلاّ لِمَنِ ارتَضَى) ؟ قال عليه السلام: «لا يشفعون إلاّ لمن ارتضى الله دينه» (2).
وعن البرقي عن علي بن الحسين الرقي، عن عبدالله بن جبلة، عن الحسن بن عبدالله، عن آبائه، عن جدّه الحسن بن علي عليهم السلام في حديث طويل قال عليه السلام: «إنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال في جواب نفرٍ من اليهود سألوه عن مسائل: وأما شفاعتي ففي أصحاب الكبائر ما خلا أهل الشرك والظلم»(3). وهذا الحديث يجري مجرى الحديث السابق في الكشف الواضح عن عدم رضى الله سبحانه وتعالى عن الذين يموتون وهم مشركون أو ظالمون.
عن عبيد بن زرارة قال: سُئل أبو عبدالله عليه السلام عن المؤمن: هل له
(1) الكافي، للكليني 2: 288 | 3 كتاب الاِيمان والكفر باب الاِصرار على الذنب.
(2) بحار الانوار، للمجلسي 8: 34.
(3) بحار الانوار، للمجلسي 8: 39.
الصفحة 62
شفاعة؟ قال عليه السلام: «نعم»، فقال له رجلٌ من القوم: هل يحتاج المؤمن إلى شفاعة محمد صلى الله عليه وآله وسلم يومئذٍ ؟ قال عليه السلام: «نعم، إنّ للمؤمنين خطايا وذنوباً، وما من أحدٍ إلاّ يحتاج إلى شفاعة محمد يومئذ» (1).
اترك رداً