الصّدّيقة الزّهراء (عليها السلام) والقرآن الكريم

img

2016-04-12 | الشيخ حسن هلال الزاكي | العدد 34

إضاءة
عندما يكتب أحد عن سيرة العظماء أو عن شذرات من عظمتهم، يبقى أسير ضعفه ومحدوديّته، إلا أنّه لاسبيل لنيل شيء من معرفتهم إلا أن نطرق أبوابهم وننتظر شيئاً من زادهم وبصيصاً من أشعة أنوارهم الزّاهية.
نعم، أحببت أن أتطرق عن العلاقة الوثيقة بين ثِقلَين جمَعا كلّ العظـمة والعـزة والحكـمة؛ بين سـيدة نساء العالمين
وكتاب الله المجيد. «إنّي مخلّف فيكم الثّقلين كتاب الله وأهل بيتي» والزّهراء البتول (عليها السلام) في الحقيقة تشكّل النّواة المباركة لثقل أهل البيت الأعظم (عليهم السلام)، حيث ورد عن مولانا الإمام العسكري (عليه السلام): «نحن حجج الله على الخلق وجدتنا فاطمة حجة الله علينا»(1)، وفهم الثّقل الأكبر لا يتسنّى لنا إلا بالرجوع إلى المخاطب به «إنّما يعرف القرآن من خوطب به»(2). فقول الرّسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله) الذي اشتهر بين العامّة والخاصّة أنّه قال: «يافاطمة إنّ الله عزّوجل يغضب لغضبكِ ويرضى لرضاكِ» حيث لازمت الرّواية الشريفة بين رضا الله تعالى ورضا فاطمة (عليها السلام) وغضب الله تعالى وغضب فاطمة (عليها السلام)، وهذا في نفسه لأمر عظيم خطير المنزلة(3). وغير خافٍ على المؤمنين مكانة الكتاب العزيز وعلوّ منزلته، وهو كلام الله بين أيدينا {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ}(4).
وكذلك ليس بخافٍ ما للثقلين من مشتركات عِدّة يشترك فيها القرآن والصّدّيقة الزّهراء (عليها السلام) من الهداية والإنذار والعالميّة والرّحمة الطّهارة والتّذكير {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا}(5) {وَمَا هِيَ إِلا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ}(6) والكلام على هذا المنوال سيكون في ثلاثة مقامات بإذن الله:
1- القرآن الكريم والصّدّيقة الزّهراء (عليها السلام).
2- الصّدّيقة الزّهراء (عليها السلام) والقرآن الكريم.
3- القرآن والصّدّيقة (عليها السلام) مظهر الشفاعة والمظلوميّة.
المقام الأوّل: القرآن الكريم والصّدّيقة الزّهراء (عليها السلام)
القرآن كلام الله المنزل على نبيّه المرسل كثيراً ما نزل في عظمة هذه السيدة الجليلة (عليها السلام) فلا عجب ولاعجاب مما ورد عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) حيث يقول: «أتعجبون أنّ القرآن أربعة أرباع؛ ربع فينا أهل البيت، وربع قصص أمثال، وربع فرائض، وربع أحكام، والله أنزل في عليّ كرائم القرآن» أخرجه البحراني في تفسيره البرهان(7).
ومن الواضح أنّ هذه الشّذرات السّريعة آتية الذكر لن تشمل جميع الآيات التي تعرّضت مشيرةً إلى الصّدّيقة الطّاهرة (عليها السلام)، لكنّها تركّز على أمّهاتها وأشهرها حيث لايمكن للكثير من المفسرين أن يتعدّى هذه الآيات والسور التي تعرّضت إلى مقام سيّدة نساء العالمين دون الإشارة إلى مصداقها الأوّل أو سبب النّزول في سيّدتنا الصّدّيقة فاطمة الزّهراء (عليها السلام).
1- آية التّطهير:
وهي الآية التي حملت الشّهرة الواسعة في اختصاص نزولها في حق بيت الطّهارة (عليهم السلام)، وقد نالت ما نالت من أبحاث العلماء وتركيزهم على مضامينها الرّفيعة وسبب نزولها وما شابه ذلك.
حيث قال الله تعالى: {إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ ويُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} فقد ورد عن الرّسول الأكّرم (صلّى الله عليه وآله) في هذه الآية: «إنّما نزلت فيّ، وفي أخي، وفي ابنتي، وفي ابنيّ، وفي تسعة من ولد ابني الحسين خاصّة، ليس معنا أحد غيرنا»(8) عن أمير المؤمنين (عليه السلام) عن رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله).
فكانت هذه الآية الدّليل الّلامع في بيان عصمة السّيدة الزّهراء (عليها السلام) وأهل بيت الرّسالة (عليهم السلام).
وقد أوجز سماحة السّيد عليّ الميلاني (دام ظله) حاصل معنى آية التّطهير وفق الأحاديث، وبيّنها كالتالي:
“الأول: إنّ المراد من (أهل البيت) في آية التّطهير هم النّبي (صلّى الله عليه وآله) وعليّ وفاطمة والحسن والحسين (عليهم السلام)، لايشركهم أحد، أمّا الأزواج فالأحاديث نصّت على أنّ النّبي (صلّى الله عليه وآله) لم يأذن بدخول واحدة منهنّ تحت الكساء، أمّا غيرهنّ فلم يأمر الرسول (صلّى الله عليه وآله) فاطمة (عليها السلام) بأن تجيء بأحد غير زوجها وولديها (عليهم السلام).
الثاني: إنّ الآية نزلت في واقعة معيّنة، ولاعلاقة لها بما قبلها وما بعدها، ويشهد إلى ذلك مجيء الضمير مذكراً في (عنكم) و(يطهركم) دون عنكنّ ويطهركنّ!! أضف إلى هذا وجودَ الاتّصال بين ما قبل آية التطهير وما بعدها، فلو رفعنا الآية لايختلّ الكلام أصلاً.
وألطف ما جاء في الحديث لأمّ سلمة (أنتِ مِن أزواج رسول الله)، فإنّه يعطي التّفصيل -مفهوماً ومصداقاً- بين العنوانين (أهل البيت) و(الأزواج)”(9).
2- آية المباهلة:
آية المباهلة من الآيات الدّالة والبراهين الواضحة على أحقيّة هذه الرّسالة المحمديّة، كما أنّه لا مجال للمشككين والمدلّسين أن يعبثوا في بيان مصاديقها الواضحة والتي في صدارتها فاطمة الزّهراء (عليها السلام) {فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} وقد تضمّنت معانيَ سامية لمحلّ الزّهراء (عليها السلام) في قلب رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ومدى أهميّتها في سبيل الدّفاع عن بيضة الدين القويم، فما معنى خروجها مع أبيها وبعلها وابنيها؟!
قال في الكشّاف: “فإن قلت: ما كان دعاؤه إلى المباهلة إلا ليتبيّن الكاذب منه ومن خصمه، وذلك أمر يختصّ به وبمن يكاذبه، فما معنى ضمّ الأبناء والنّساء؟
قلت: ذلك آكد في الدّلالة على ثقته بحاله واستيقانه بصدقه، حين استجرأ على تعريض أعزّته وأفلاذ كبده وأحبّ النّاس إليه ذلك، ولم يقتصر على تعريض نفسه له، وعلى ثقته بكذب خصمه حتّى هلك خصمه… “(10).
ثم إنّ كلمة (نساءنا) وما تحمل من دلالات واضحة على مكانة الزّهراء الإلهية، فخروجها مع أهل بيتها مع الاطمئنان والسكينة إلى مواجهة نصارى نجران في تلك المباهلة يجلّي تلك القلوب الطاهرة التي تجلّيها الزيارة الجامعة «السّلام على محالّ معرفة الله، ومساكن بركة الله، ومعادن حكمة الله، وحفَظة سر الله».
وما ورد عن عائشة أنّها قالت: “أسرّ النّبيّ (صلّى الله عليه وآله) إليها شيئا فضحكت، فسألتها، فقالت (عليها السلام): قال (صلّى الله عليه وآله): «ألا ترضين أن تكوني سيّدة نساء هذه الأمّة أو نساء المؤمنين، فضحكت لذلك»” يؤكّد أنّ تلك السّيادة الإلهية الرّاقية للسّيدة الجليلة (عليها السلام) قد تمثّلت في يوم المباهلة بأجلى صورها.
فيؤكّد ذلك موقعيّة الزّهراء (عليها السلام) في قيام هذا الدين، وبذل كل غال ونفيس لنصرة الرّسالة المحمّديّة، وبذلك نالت هذه السّيادة العالمية على نساء العالمين.
والّلطيف أنّ لدينا تعليقاً -لآية الله الشيخ جوادي آملي دامت بركاته- على رواية نزول الوحي على فاطمة الزّهراء (عليها السلام) بعد رحيل رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، والتي أوردها الكليني (رحمه الله) في الكافي الشريف «إنّ اللّه تعالى لمّا قبض نبيّه (صلّى الله عليه وآله) دخل على فاطمة (عليها السلام) مِن وفاته مِن الحزن ما لا يعلمه إلا اللّه عزّوجلّ، فأرسل اللّه إليها ملكا يسلّي غمّها ويحدّثها…»(11) قائلا حول مقام مولاتنا الصّدّيقة (عليها السلام): “أن تصير عالمياً، أن تكون عالمياً، عليك أن تسعى وتجتهد وتصبر كما سعى النّبي نوح (عليه السلام) طيلة 950 عاماً حتى خاطبه المولى القدير في كتابه العزيز {سَلامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ}(12)، فالنّبي موسى (عليه السلام) بتمام سعيه وجهده لم يرد في القرآن في حقه آية للعالمين، والنبي إبراهيم (عليه السلام) وما قام به من عمارة بيت الله الحرام، ومجاهدته إلى الأصنام {حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آَلِهَتَكُمْ}(13)، مع كل ذلك لم يكن آيةً للعالمين!
فلو أراد أحد أن يكون آيةً للعالمين، يعني إمّا أن تكون له كلمة بين الأوّلين والآخرين، وإمّا أن يكون له سعي كسعي نبيّنا نوح (عليه السلام) -تسعة قرون ونصف-، لأن القرآن أورد هذا السّلام بشكل خاصّ إلى النّبي نوح (عليه السلام)، بينما قال في موسى وعيسى (عليهما السلام) {سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ}(14) {سَلامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ}(15).
ولكن وفق كلام الرّسول المعظّم (صلّى الله عليه وآله) فإنّ الصّدّيقة الزّهراء (عليها السلام) سيّدة نساء العالمين مِن الأولين والأخرين، لماذا؟ لأنّها كانت عدلاً للقرآن الكريم فكانت الكلمة الجامعة “(16).
3- آية الاطعام:
أنزل الله فيهم هذه الآيات الشريفة {وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى‏ حُبِّهِ مِسْكِيناً ويَتِيماً وأَسِيراً إلى قوله إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً وكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً} ليوضّح مدى شأن العائلة العلويّة الفاطميّة، فلو أتينا إلى هذه الآية من سورة الإنسان فهي قد أوضحت عدة خصائص للسيدة الصّدّيقة الزّهراء (عليها السلام) والكوكبة الصالحة من بعلها وبنيها (عليهم السلام):
1. إطعام الطّعام مع أشدّ الحاجة إليه لثلاث فئات من المجتمع. (الإيثار).
2. إرادة وجه الله بشكل مخلِص في هذا الإطعام. (الإخلاص).
3. عدم انتظارهم لشكر النّاس وجزاءهم. (بل هي الرحمة في قلوبهم).
والروايات في هذا الشّأن ليست بقليلة التي تبيّن أن مِن أوّل آيات سورة الإنسان، وتوصيف الأبرار، وتبشيرهم بالجنان ونحو ذلك إنّما نزلت في عليّ (عليه السلام) وأهل بيته (عليهم السلام)، ومرادنا قد اتضح من أنّ سعي السّيدة الزّهراء (عليها السلام) مشكور عند ربّ العالمين، فلم تتردد في أن تبيت ثلاث ليالٍ بدون أيّ طعام، والأشدّ من ذلك أن تصبر الأم وهي ترى ولديها وقد تشافيا من المرض وليس لهما طعام.
4- سورة الكوثر:
قال تعالى: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ}(17).
أخرج أصحاب عددٍ من التفاسير نزول هذه السورة بشأن فاطمة الزّهراء (عليها السلام) بنت الرّسول (صلّى الله عليه وآله) وإليك عدداً منهم:
1. البيضاوي في تفسيره، عند تفسير كلمة: الكوثر، قال:”وقيل: أولاده”(18).
2. الفخر الرّازي، في تفسيره الكبير، قال: “الكوثر أولاده (صلّى الله عليه وآله)؛ لأنّ هذه السورة إنّما نزلت ردّاً على من عابه (صلّى الله عليه وآله) بعدم الأولاد، فالمعنى: أنّه يعطيه نسلاً يبقون على مرّ الزمان، فانظر كم قُتل من أهل البيت ثم العالَم ممتلئ منهم، ولم يبق من بني أمية في الدنيا أحد يعبأ به”(19).
ولايخفى أنّ هناك الكثير من الأقوال في المراد من الكوثر في الآية المباركة، من الخير الكثير وكثرة الأولاد والشّفاعة ونهر في الجنة، إلا أنّ صاحب الميزان رجّح كونها دالة على فاطمة (عليها السلام) وذرّيتها (عليهم السلام) حيث قال (رحمه الله): “والجملة لا تخلو من دلالة على أنّ ولد فاطمة (عليها السلام) ذرّيته (صلّى الله عليه وآله)، وهذا في نفسه من ملاحم القرآن الكريم فقد كثّر الله تعالى نسله بعده كثرة لا يعادلهم فيها أيُّ نسل آخر مع ما نزل عليهم من النوائب وأفنى جموعهم من المقاتل الذريعة”(20).
5- سورة القدر:
قال حدثنا محمد بن القاسم بن عبيد معنعناً عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنّه قال: «إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ الليلة فاطمة (عليها السلام)، والقدر الله، فمن عرف فاطمة (عليها السلام) حق معرفتها فقد أدرك ليلة القدر، وإنّما سمّيت فاطمة (عليها السلام)؛ لأن الخلق فطموا عن معرفتها -أو من معرفتها الشك من أبي القاسم‏-، وقوله: وما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ، لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، يعني خير من ألف مؤمن، وهي أمّ المؤمنين، تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ والرُّوحُ فِيها، والملائكة المؤمنون الذين يملكون علم آل محمد (صلّى الله عليه وآله)، والروح القدس هي فاطمة (عليها السلام) بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ يعني حتى يخرج القائم (عليه السلام)»(21).
هذا، وقد ذكرت رسالة (فاطمة الزّهراء -عليها السلام- ليلة القدر) أربعة عشر وجه من أوجه الشّبه بين فاطمة الزّهراء سيّدة النساء (عليها السلام) وبين ليلة القدر، وإجمالها كما يلي:
1- ليلة القدر وعاء زماني للقرآن الكريم، وفاطمة الزّهراء (عليها السلام) وعاء مكاني.
2- ليلة القدر يفرق فيها كلّ أمر حكيم، كذلك الزّهراء (عليها السلام) فهي الفاروق بين الحقّ والباطل.
3- ليلة القدر معراج الأنبياء لكسب العلوم والفيوضات الإلهيّة، كذلك فاطمة الزّهراء (عليها السلام) فهي مرقاة النبوّة ومعرفتها معراج الأنبياء.
4- ليلة القدر هي خير من ألف شهر، كذلك تسبيح فاطمة الزّهراء (عليها السلام) تجعل كلّ صلاة بألف صلاة وبمحبّتها تُضاعف الأعمال كليلة القدر.
5- ليلة القدر ليلة مباركة، ومن أسماء فاطمة الزّهراء (عليها السلام) (المباركة).
6- علوّ شأن ليلة القدر ومقامها الشامخ بين الليالي، كذلك الزّهراء (عليها السلام)، وأنّه لولاها لما خلق الله محمّد (صلّى الله عليه وآله) وعليّ (عليه السلام) كما ورد في الخبر الشريف.
7- كما أن ثواب العبادات في ليلة القدر يتضاعف كرامةً لها، كذلك حبّ الزّهراء (عليها السلام) يوجب تضاعف ثواب الأعمال، وإذا كانت ليلة القدر منشأ الفيوضات الإلهيّة، فكذلك الزّهراء (عليها السلام) والتوسّل بها.
8- القرآن هو النّور ونزل في ليلة القدر ليلة النّور، وفاطمة (عليها السلام) هي النّور فهي ليلة القدر كما في تفسير آية النّور: {اللهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ}.
9- ليلة القدر ليلة السّعادة، وفاطمة (عليها السلام) سرّ السّعادة.
10- تقدّست ليلة القدر وما قبلها من الأيّام والّليالي وما بعدها كرامةً لها وتعظيماً لمقامها، كذلك الزّهراء (عليها السلام) يُحترم ذرّيتها ويُقدّسون عند الاُمّة كرامةً لها وحبّاً بها ولغير ذلك.
11- ليلة القدر ليلة الخلاص من النّار والعتق من جهنّم، كذلك فاطمة (عليها السلام) تفطم شيعتها من النّار وتلتقطهم من المحشر كما يلتقط الطير الحبّ الجيّد.
12- ليلة القدر سرّ من أسرار الله، وكذلك الزّهراء (عليها السلام) فهي من سرّ الأسرار.
13- ليلة القدر سيّدة الليالي، وفاطمة الزّهراء (عليها السلام) سيّدة النساء.
14- لقد جهل قدر ليلة القدر، وكذلك فاطمة الزّهراء (عليها السلام) بنت الرسول (صلّى الله عليه وآله) فقد جهل النّاس قدرها، كما أنّها مجهولة القبر إلى ظهور ولدها القائم من آل محمّد (عليه السلام)(22).
وللباحث المتعطش أن يغور في كتب التفسير ليشفي غليله من المعرفة الفاطمية، فله أن يقصد الزّهراء (عليها السلام) في آية المودّة، وآية {وَآَتِ ذَا القُرْبَى}، والزّهراء (عليها السلام) في سورة الرحمن، وسورة النّور، وسورة البقرة، وفي سورة الرّعد و سورة ياسين.
وقد أجاد السيد محمد على الحلو في جمع ما نزل من القرآن في شأن الزّهراء بين دفتين.
المقام الثاني: الصّدّيقة (عليها السلام) والقرآن الكريم
ونركز هنا على اهتمام الزّهراء (عليها السلام) بالقرآن الكريم، ومدى علاقتها الوثيقة التي تربطها به، وذلك ليس بمستغرب عنها وقد نشأت في بيت الوحي والتنزيل، فهم أهل القرآن بل هم القرآن الناطق. وقد جاء في الرّواية الشّريفة «إنّما يعرف القرآن من خوطب به»(23).
فضل القرآن والتشوّق إليه:
ومما وصل إلينا في بيان العلاقة الرّصينة بينهما، ما قالته سيّدة النّساء (عليها السلام): «حبّب إليّ من دنياكم ثلاث: تلاوة كتاب الله، والنظر إلى وجه رسول الله، والإنفاق في سبيل الله»(24).
وأيضاً جاء عنها: «قارئ الحديد، وإذا وقعت، والرحمن، يدعى في السماوات والأرض ساكن الفردوس»(25).
فما يربط شخصيّة عظيمة كشخصيّة السيّدة الزّهراء (عليها السلام) بكتاب الله رباط يحمل أسمى معاني الأنس والاستيضاء بهديه ونوره، فلا غرو أن يكون القرآن الكريم من أوائل ما يميل إليه قلب السيّدة الزّهراء (عليها السلام)، بل من الموجّهين لتلاوته والاستئناس به والأخذ بهديه، وقد جاء في هذا المنحى ما نقل عن الزّهراء البتول (عليها السلام) في رثاء أبيها:
قد كان جبريل بالآيات يؤنسنا
فغبت عنّا فكل الخير محتجب

فكنت بدراً ونوراً يستضاء به
عليك تنزل من ذي العزة الكتب(26)

وصف القرآن:
«..ومعنا كتاب الله النّاطق، والقرآن الصّادق، والنور السّاطع والضياء الّلامع، بيّنة بصائره، منكشفة سرائره، متجلّية ظواهره، مغتبطة به أشياعه، قائد إلى الرّضوان اتّباعه، مؤدًّ إلى النّجاة استماعه، به تنال حجج الله المنورة، وعزائمه المفسّرة، ومحارمه المحذرة، وبيناته الجالية، وبراهينه الكافية، وفضائله المندوبة، ورخصه الموهوبة، وشرائعه المكتوبة»
فـأوّل ماشرعت في هذه الفقرة -من الخطبة الفدكيّة- ببيان المعيّة والرابطة المقدّسة بين أهل البيت (عليهم السلام) والقرآن الكريم، وأخذت توصّف السيّدة الجليلة (عليها السلام) بعد ذلك عظمة هذا القرآن، وما يمثله القرآن من حالة النّوريّة والضياء مع البيان الكامل لآيات الله، ويؤكّد ذلك ما ورد عن أبي عبدالله (عليه السلام): «كتاب الله فيه نبأ ما قبلكم، وخبر ما بعدكم، وفصل ما بينكم، ونحن نعلمه»(27) ومما ورد «القرآن ربيع القلوب» باعتباره نوراً يشع على قلوب البشريّة، وكلّ يأخذ على قدر وعائه وشفافية قلبه، وإلا فذلك الرّين الذي جاء في كتاب الله العزيز{كَلا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}(28).
الاستشهاد بالقرآن والاستدلال به:
«هذا كتاب الله حكماً وعدلاً وناطقاً فصلاً يقول: {يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آَلِ يَعْقُوبَ}، {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ}».
والاستشهاد بآيات الله على لسان الصّدّيقة الزّهراء (عليها السلام) مع بالغ أهميته، إلا أنّها ومقامها لو كان عند القوم أدنى إيمان لما كانت تحتاج إلى الاستشهاد بآيات الله وهي آية التصديق والصّدّيقة الكبرى، إلا أنّ الزّهراء (عليها السلام) قد أبتليت بتلك الرّزايا العظام فكانت في مقام بيان الحجة على هؤلاء النّاس، والدّفاع عن راية الإسلام المتمثّلة في الإمامة الإلهيّة، كما أرادت بيان أنّ المرجع الأخير والحكم العدل هو كتاب الله العزيز، والاهتداء بهديه في أيّ فتنة نفتتن بها.
فحريّ بنا أن نستهدي بهدى القرآن، ونحكّم القرآن في ما نختلف فيه ونستنطقه في قضايانا المعاصرة، لنكون في واقعنا وحياتنا قرآنيّون، ويصدق علينا في يوم القيامة أنّنا فاطميون، كما جاء عن ابن عباس عن أمير المؤمنين (عليه السلام) عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله): «فيقول الله (يافاطمة) انطلقي فمن أعتصم بك فهو معك في الجنّة، فعند ذلك يودّ الخلائق أنّهم كانوا فاطميين»(29).
الوصية بكتاب الله:
«إذا أنا متُ، فتولّ غسلي، وجهزني، وصلّ عليّ، وأنزلني قبري… فأكثر من تلاوة القرآن والدعاء، فإنّها ساعة يحتاج الميت فيها إلى أنس الأحياء، وأنا أستودعك الله تعالى»(30) نعم تلك وصيّة الأولياء والمعصومين (عليهم السلام)، وإن دلّت على شيء فإنّما تدلّ وصيّة الزّهراء (عليها السلام) على مكانة القرآن، ومحوريّته في فكرها وتركيزها.
وأمّا ما أرادت بيانه (عليها السلام) فإنّها تريد أن توصي بحاجتنا إلى القرآن في كل مفصل من مفاصل حياتنا، بل في أهم الأوقات لاسيّما حين نزول الميّت للقبر، ولم تطلب فقط التلاوة بل الإكثار من التلاوة، ومن جهة أخرى تعبّر مولاتنا (عليها السلام) عن علاقة الأنس بين روحها الطّاهرة وهذا الكتاب العزيز، فهي كلمة الله وهذا القرآن كلام الله.
المقام الثّالث: القرآن والصّدّيقة (عليها السلام) مظهر الشفاعة والمظلوميّة
لم تكن الصّدّيقة مظهراً للحلقة المقدّسة بين النّبوة والإمامة فحسب، بل كانت القرين الحميم لكلام الله في مظهري الشّفاعة والهجران، فكما أنّ كتاب الله المجيد ورد أنّه شافع فإنّ الزّهراء (عليها السلام) من أبرز مظاهر الشّفاعة يوم المحكمة الكبرى.
أمّا في شفاعة القرآن فتعالوا إلى نهج البلاغة لنرى ماذا قال أمير المؤمنين (عليه السلام) فيه: «واعلموا أنّه شافع مشفّع، وقائل مصدّق، وإنّه مَن شفع له القرآن يوم القيامة شُفّع فيه، ومَن مَحَلَ به القرآنُ يوم القيامة صُدّق عليه، فإنّه ينادي منادٍ يوم القيامة: إلا إنّ كلّ حارثٍ مبتلى في حرثه وعاقبة عمله، غير حرَثَة القرآن، فكونوا من حرَثَتَه وأتباعه…»(31).
فهذا النداء الذي سيُسمع، والمخصوص لحَرَثة الحقول القرآنيّة، سيسِمع نفسه ولكنّ هناك نداءاً مخصوصاً لشفاعة سيّدة نساء العالمين (عليها السلام) إلى شيعتها ومحبّيها والباذلين في حبّها وحبّ أبيها (صلّى الله عليه وآله).
فعن الرّسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله) أنّه قال: «إذا كان يوم القيامة نادى مناد: يا معشر الخلائق غضّوا أبصاركم ونكّسوا رؤوسكم، حتى تمرّ فاطمة بنت محمد، فتكون أوّل من يكسى، وتستقبلها من الفردوس اثنتا عشـرة ألف حوراء… ثم يبعث الله ملكاً لها لم يبعث لأحد قبلها ولا يبعث لأحد بعدها، فيقول: إنّ ربّك يقرأ عليك السلام ويقول: سليني، فتقول: هو السلام، ومنه السلام، قد أتمّ عليّ نعمته، وهنّأني كرامته، وأباحني جنّته، وفضّلني على سائر خلقه، أسأله وِلدي وذرّيتي، ومن ودّهم فيَّ وحفظهم بعدي، فيوحي الله إلى ذلك الملك من غير أن يزول من مكانه، أخبرها أنّي قد شفعتها في وِلدها وذرّيتها، ومَن ودّهم فيها وحفظهم بعدها. فتقول: الحمد لله الذي أذهب عني الحزن، وأقر عيني، فيقرّ الله بذلك عين محمد (صلّى الله عليه وآله)» (32).
وهكذا اشتركت الصّدّيقة في المظلومية التاريخية الكبرى والتي استمرت إلى هذه القرون، نعم اشتركت مع القرآن العظيم في سنخيّة الهجران والمظلوميّة ولعلّ من أبرز مظاهر المظلوميّة في الثّقلين واضحة في وجوه عديدة، منها ما نال القرآن ومنها ما نال قرينه، ولايمكن هنا أيضاً أن نحصر مظلوميّة أحدهما به، بل إنّ ظلم أحدهما يعني في نفس الأمر ظلم الثقل الآخر، وهذا إنّما يتّضح جلياً لو التفتنا بأدنى التفات إلى حديث الثقلين و«تمسكتم بهما».
صور من الهجران:
● التعدّي على القرآن الكريم في تفسيره بما لم ينزل به الله من سلطان، وذلك عبر أهواء بعض من تلبّس بالعلم، فأخذ يدلّس في التفسير وأسباب النزول لأهدافٍ جدُّ وضيعة، وهكذا ما نال السيّدة الزّهراء (عليها السلام) من مظلومية تبقى على مدى التأريخ ولعلّ أبرز ما يندى له الجبين حتى عصرنا الحالي ألّا يكون هناك قبر معروف لسيّدة النّساء في هذا العالم! وأكبر من هذا أنّه قد يأتي على بعضهم ممن يتشهّد الشّهادتين ولايعرف أنّ لرسول الله (صلّى الله عليه وآله) ابنة تسمى فاطمة (عليها السلام)!!
● حالة البعد عن جوهر القرآن والعمل بدساتيره، مع التركيز على طباعته وتجويده وتلاوته، والمتاجرة به وذلك باسم حفظ وخدمة القرآن!!، وهكذا فإنّ ادعاء محبّة أهل البيت (عليهم السلام) ليس كافياً بل لابد من التبرّي من أعداء الزّهراء (عليها السلام)، وتشخيص جبهات الحق والباطل.
نعم، تشخيص جبهة الحق تعالى التي قد بيّنها أمير المتكلمين في نهجه (عليه السلام): «بهم عُلم الكتاب وبه علِموا، وبهم قام الكتاب وبه قاموا»(33).
● حالة الهجران للقرآن من عموم النّاس، وحصره في بعض الحالات كالحزن أو البركة أو ما شابه ذلك. {ياَرَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً} وهجراننا عن مفاهيم وروايات ومعارف الزّهراء (عليها السلام) وأهل بيتها (عليهم السلام) من أهم أسباب ابتلاءاتنا كما اشتهر على لسان الشيخ بهجت (رحمه الله). فلا يكفي ادّعاء المحبّة والولاء من دون تمحيص كل سلوكياتنا وقناعاتنا لتكون وفق ما أرادها حجج الله على عباده.
اللهمّ صلّ على محمّد وآله، وهوّن بالقرآن عند الموت على أنفسنا كرب السّياق، وجهد الأنين، وترادف الحشارج إذا بلغت النّفوس التراق وقيل من راق، وثبتنا على ولاية أمير المؤمنين (عليه السلام) والبراءة من أعداءه ياكريم.
* الهوامش:
(1) الأسرار الفاطميّة للشيخ المسعودي ص410.
(2) وسائل الشّيعة 27:185 كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 13، الحديث 25.
(3) ذخائر العقبى ص39، مسند فاطمة ص52، ينابيع المودّة ص174.
(4) النّحل 16/89.
(5) الفرقان 25/1.
(6) المدّثّر 74/31.
(7) بحار الأنوار ج 35 ص 355 باب 14 ح6.
(8) كمال الدين 1: 278، باب 24، ذيل الحديث25.
(9) مع الدّكتور السّالوس في أية التّطهير، السّيد علي الحسيني الميلاني ص119.
(10) زبدة التفاسير ج1 ص497.
(11) أصول الكافي ج1 ص24، باب فيه ذكر الصحيفة والجفر…ح2.
(12) الصافات 37/ 79.
(13) الأنبياء21/68.
(14) الصافات 37/109.
(15) الصافات 37/120.
(16) (صحيفة أفق الحوزة بذكرى شهادة السيدة فاطمة الزّهراء س عام 1433هـ/بتصرف في الترجمة).
(17) الكوثر108/1.
(18) أنوار التنزيل وأسرار التأويل/مخطوط/ص1156.
(19) التفسير الكبير/ج30/تفسير سورة الكوثر.
(20) الميزان في تفسير القرآن، ج‏20، ص: 371.
(21) تفسير فرات الكوفي، ص: 582.
(22) فاطمة الزّهراء (عليها السلام) سرّ الوجود للسيد عادل العلوي ص63.
(23) بحار الأنوار ج24 ص238.
(24) كنز العمّال، للمتّقي الهندي الصّوفي الحنفيّ المتوفّي 975هـ ج1ص582.
(25) شعب الإيمان، للبيهقي الشّافعي المتوفّي 458هـ.
(26) شرح ابن أبي الحديد212:16.
(27) شرح أصول الكافي للمازندراني ج2ص302.
(28) المطففين 83/14.
(29) تفسير فرات الكوفي 446.
(30) بحار الأنوارللمجلسي ج 79،ص27.
(31) نهج البلاغة ج2ص91.
(32) مسائل علي بن جعفر 345.
(33) نهج البلاغة 432.

الكاتب ya fatima

ya fatima

مواضيع متعلقة

اترك رداً